يدور نقاش في أوساط النخب في لبنان حول ما إذا كان اهتمام أميركا وحلفهائها في الغرب بلبنان قد تراجع ولم يعد على جدول أولوياتهم، أم أنّ هذا الاهتمام ما زال قائماً وأصبح أكثر حضوراً؟
في هذا السياق هناك وجهتا نظر:
وجهة النظر الأولى، ترى انّ الدول الغربية بقيادة أميركا لم تعد تجد في لبنان ذاك الموقع الجغرافي المهمّ كممرّ بين الغرب والشرق، بعد أن اصبحت دول خليجية تلعب الدور الذي كان يقوم به لبنان، اثر احتلال فلسطين وقيام كيان العدو الصهيوني، كمركز مالي وخدماتي في خدمة الدول العربية، وذلك اثر انفتاح بعض الدول الخليجية على الكيان الصهيوني وإقامة العلاقات الاقتصادية معه، مما جعل من ميناء حيفا بديلاً عملياً لميناء بيروت، فيما دبي والمنامة تحوّلتا، منذ أكثر من ثلاثة عقود، إلى مركز مالي وخدماتي، بين العالم والدول العربية، على حساب بيروت، مستفيدتين من غرق لبنان في الحرب الأهلية وتخلّفه عن لعب هذا الدور، والذي ازداد تراجعاً على خلفية الصراعات السياسية والانقسام المستمرّ بين أطراف الطبقة السياسية مما جعل لبنان في حالة من عدم الاستقرار وبالتالي عدم القدرة على استعادة عافيته والنهوض مجدّداً باقتصاده ودوره الخدماتي الوسيط، الذي كان يلعبه بين الغرب والشرق…
وجهة النظر الثانية، تعتبر، انه وإن كانت وجهة النظر المذكورة آنفاً بشأن تخلف لبنان على الصعيدين الاقتصادي والخدماتي صحيحة، وأنّ دولاً خليجية اخذت مكانه، إلا أنها لا تتفق معها في انّ الغرب لم يعد مهتماً بلبنان… بل على العكس فقد بات الغرب، برأيها، أكثر اهتماماً بلبنان من أيّ وقت مضى.. لا سيما بعد أن أصبح قوة تحرّرية ريادية على الصعيد العربي، منذ نجاح مقاومته في إلحاق الهزيمة بجيش العدو وكسر شوكته وتحطيم أسطورته مرتين، عام ٢٠٠٠ وعام ٢٠٠٦، وتحوّل المقاومة إلى قوة ردع تمنع كيان العدو من الاعتداء على لبنان وتحول دون قدرته على تحقيق أطماعه في أرضه وثرواته المائية والنفطية والغازية.. وفي نفس الوقت تشكل عامل قوة معاضد ومساند لمقاومة الشعب العربي في فلسطين المحتلة، وخطراً داهماً على المشروع الصهيوني الاستعماري في عموم المنطقة، خصوصا بعد أن أسهمت المقاومة في دعم حركات المقاومة في العراق واليمن وقطاع غزة ودعمت سورية، بخبراتها القتالية في مواجهة المحتل الأميركي الصهيوني وأدواته الإرهابية التي دفع بها إلى سورية والعراق ولبنان لتعويض هزائمه من خلال محاولة القضاء على المقاومة وإسقاط الدولة الوطنية السورية، التي تشكل سنداً وظهيراً لها. وإعادة فرض الهيمنة الاستعمارية على العراق.
انطلاقاً من وجهتي النظر السالفتين، يمكن القول:
1 ـ انّ اهتمام الغرب بلبنان أصبح أكثر من السابق، بعد ان تحوّل لبنان من بلد كان خاضعاً بالكامل للغرب، ويشكل قاعدة متقدّمة لقوى الاستعمار الغربي لحياكة المؤامرات ضدّ الأنظمة العربية التقدّمية، وقوى التحرّر في المنطقة، وكان نظامه التابع للغرب يتفاخر بمقولة «قوته في ضعفه»، ويعتدي عليه كيان العدو الصهيوني متى أراد، ليصبح لبنان هذا، قوته في مقاومته المنتصرة والمقتدرة، المستندة إلى المعادلة الذهبية «جيش وشعب ومقاومة»، التي حرّرت الأرض عام 2000 وهزمت الجيش الصهيوني مرة ثانية عام 2006، وبالتالي لم يعد بإمكان العدو الصهيوني أن يسرح ويمرح في لبنان، كما كان يفعل في الماضي، وباتت يده العدوانية الطويلة مغلولة ومكبّلة…
2 ـ انّ أولوية الغرب، كانت ولا تزال، هي حماية أمن كيان العدو الصهيوني، ولهذا أصيبت الحكومات الغربية بهستيريا نتيجة انتصارات المقاومة وتنامي قوتها، كمّاً ونوعاً، بعد انتصارها الجديد على قوى الإرهاب في السلسة الشرقية، والانتصارات التي حققتها في سورية، مع الجيش السوري، في مواجهة جيوش الإرهاب التي جهزت ودرّبت، غربياً وصهيونياً، على أحدث الأسلحة وكلّ أنواع القتال، مما انعكس تحوّلاً في ميزان القوى وادّى إلى تبدّل الأغلبية في البرلمان لمصلحة المقاومة وحلفائها وفقدان الفريق الأميركي الأغلبية التي حاز عليها بعد انقلابه الذي نفذه عام 2005 مستغلاً جريمة اغتيال الرئيس الحريري إيما استغلال..
ونتيجة ذلك زاد اهتمام الغرب بلبنان، وباتت جهوده تنصبّ على كيفية إضعاف ومحاصرة المقاومة ونزع سلاحها، لتخليص الكيان الصهيوني القلق من وجودها على الحدود مع فلسطين المحتلة، وتأمين أمنه واستقراره، عبر إعادة إخضاع لبنان للإملاءات والشروط الغربية الصهيونية.. ولأجل ذلك راح هذا الغرب يحيك، من جديد، المؤامرات الانقلابية والفتنوية، عبر استخدام الوسائل التالية:
1 ـ فرض الحصار الاقتصادي والمالي وتفجير الأزمة الاقتصادية والمالية التي تسبّبت بها السياسات الاقتصادية الريعية النيوليبرالية المتوحشة التي اعتمدتها الطبقة السياسية التابعة للغرب، بهدف أساسي وهو تحميل المقاومة وحلفائها المسؤولية عن هذه الأزمة وتأليب اللبنانيين ضدّهم لإقصائهم عن السلطة وإعادة السيطرة عليها من قبل الفريق الموالي للغرب، وبالتالي العمل على محاولة عزل ومحاصرة المقاومة ونزع سلاحها، وخصوصاً الصواريخ الدقيقة، التي تقلق كيان العدو وتردع عدوانيته.. وهو ما أخفقت فيه واشنطن والعواصم الغربية، لكنها نجحت في المقابل، مستندة إلى الفريق التابع لها، وعجز الأغلبية النيابية عن الحكم وشقّ سياسات بديلة، نجحت في تسريع الانهيار الاقتصادي والمالي وجعل لبنان بلداً مفلساً، وشعبه يعاني من أعنف أزمة اجتماعية وأكبر ضائقة معيشية في تاريخه…
2 ـ الضغط على لبنان لقبول شروط صندوق النقد الدولي للاستدانة، وهو سلاح أميركا لإخضاع الدول وفرض الهيمنة عليها.. وفي حالة لبنان الحالية يرهن الصندوق تسهيل منح القروض للبنان بموافقة الأخير على العديد من الشروط في مقدّمها ترسيم وتحديد الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة وفق مقترح السفير الأميركي السابق فريدريك هوف، الذي يعطي كيان العدو جزءاً من مياه لبنان الإقليمية التي اكتشفت فيها ثروة كبيرة من الغاز.. غير أنّ هذه الشروط رفضها لبنان ولم تنجح واشنطن في فرضها عليه…
3 ـ منع لبنان من التوجه نحو الشرق لقبول المساعدات والمشاريع المعروضة عليه من الصين وإيران والعراق، بلا شروط، وبتسهيلات كبيرة جداً، خصوصاً عرض حصوله على احتياجاته من النفط ومشتقاته بالليرة اللبنانية من إيران، او عبر مقايضة المنتجات اللبنانية الزراعية والصناعية بالنفط من العراق…
لو قبل لبنان بهذه العروض، لأسهمت في النهوض بالاقتصاد اللبناني، وحلّ مشكلات لبنان الخدماتية ووقف نزيف ما تبقى لديه من احتياطات بالدولار…
وبالتالي قطع الطريق على خطط الغرب لإبقاء لبنان تحت الحصار وضغط الأزمات المالية والاقتصادية والمعيشية، لدفعه إلى القبول بشروطه مقابل رفع هذا الحصار..
ما تقدّم يؤكد أهمية لبنان المتزايدة، بالنسبة للولايات المتحدة والدول الغربية، وهي أهمية تنطلق من مصلحة كيان العدو الصهيوني ومساعدته على ضمان أمنه وتحقيق أطماعه في ثروات لبنان..
وإذا كانت خطط الغرب للانقلاب على المقاومة ونزع سلاحها وإجهاض الإنجازات التي حققتها، في الصراع مع العدو الصهيوني، وفي مواجهة الحرب الإرهابية الكونية التي شنّتها أميركا ضدّ سورية والعراق ولبنان، قد أخفقت، وفشلت معها محاولات واشنطن في إحداث الانقلاب في لبنان وتغيير ميزان القوى الشعبي والسياسي لمصلحتها…
إلا أنّ لبنان، مع ذلك، لم يتمكّن من الاستفادة من قوة المقاومة وميزان القوى الذي تفرضه، في إحداث تحوّل في سياساته وتوجهاته الاقتصادية للخروج من الأزمة، وبالتالي التحرّر من ابتزاز وضغوط الغرب وكسر الحصار الذي يفرضه على لبنان.. وهو ما يطرح مهمة وطنية ستبقى من الأولويات حتى وانْ توقف الغرب عن الاستمرار في حصاره، وأفسح في المجال لحصول لبنان على متنفس يخفف من أزماته ويسمح للفريق الموالي له بالتوقف عن وضع العراقيل والشروط التعجيزية أمام تأليف الحكومة..
إنّ أولوية توجه لبنان في علاقاته الاقتصادية نحو الشرق إنما تنطلق من التحوّلات الحاصلة في المنطقة والعالم، وبالتالي من مصلحة لبنان المسارعة الى الاستفادة من موقعه الجغرافي الهامّ على طريق الحرير ليشكل معبراً لتدفق البضائع والمنتجات من الصين إلى الدول العربية والغرب، وبالعكس، والاستفادة بالتالي من هذه الفرصة المتاحة حالياً للتعويض عن تراجع دوره الخدماتي في المنطقة.. إنْ عبر الحصول على إقامة المشاريع الصينية للعب هذا الدور، أو عبر حصد ثمار هذه المشاريع لاحقاً بتحقيق عائدات دائمة تنعكس في النهوض باقتصاده وحلّ أزماته المالية والاجتماعية.. فهل تدرك الأطراف السياسية اللبنانية أهمية اغتنام هذه الفرصة وعدم إضاعتها، لا سيما انّ الدول الأوروبية نفسها، بقيادة فرنسا وألمانيا، سارعت اخيرا إلى عقد اتفاق مبدئي واسع النطاق للاستثمار المتبادل مع الصين، يكتسي أهمية اقتصادية كبرى…